أرضي المشعّة كشامةٍ على كتف نبيّ، صارت كحلاً لريش الغراب.
بيتي الفتيُّ كصفيرٍ في الغابة، سكتَ سكتةَ الطفل بين العجلات والإسفلت.
نومي الأخفُّ من خاتَمٍ ضائع، ثَقُلَ كمعطف المنفيّ. ظاهره ذكرى، وباطنه عارٌ.
أصابعي التي حرّرتْ سواقيَ وصدَّتْ سيولاً، علاها ما يعلو قضبانَ سكّةٍ مهجورة.
ما تعلّمتُه يجفُّ ويُساقط على رأسي شظايا من طلاءِ سقفٍ رطب.
تبقّى لي من الأصدقاء صبّارةٌ في الشرفة، وقلمٌ أُسيِّجُ به البساتينَ التي تورِقُ في منامي.
أُقلِّب الصوَر مثلما يتشاغل الطفل المحموم عن صدوع الجدران( وما يهبُّ منها وما يعشِّشُ فيها) بالأخيلة التي يرسمها لَهَبُ المدفأة.
" طلَعنا بثيابنا". جملةٌ عارية. الفعل فيها براءةٌ، والاسم إدانة.
مسمارٌ من جمر أدُقُّه في جدار الريح مُعلِناً الإقامةَ تحت سقف المطر،
نقمةٌ أَركزها بين الدوّامات أوتاداً لخيمةِ الممكن،
حبلٌ من ضباب أنشر عليه، كلَّ فجرٍ، غسيلَ الروح؛
موجَزٌ لأخبار الطوفان أبُثُّه، بما نما لي من أجنحةٍ، نقراً على شبابيك الليل.
كففتُ عن" يا" و" أيّها".. لأنّ كلَّ منادى قيدٌ.
كرهتُ السَّفَرَ منذ صار جبيني طريقاً.
لا أقول كغيري:" إنّ المطر في الغربة سياطٌ، والسماء فولاذٌ, والريح ندّابة".
البصيرُ أسيرٌ أينما حلَّ، والطبيعةُ براءٌ ممّا نكابد ونُضمِر. وكثيرٌ من المجازات التي نتباهى بابتكارها هناك، هي وقائعُ نتبارى على النجاة منها هنا.
هنيئاً، إذن، لمن أعانهم التيّارُ على حسم الصراع بين الرغبة في أمانِ الجسد، والخوفِ من ذهول الروح. والرحمةُ لمن تاهوا مؤْثرين طيشَ الأعماق على حكمة الضفاف.
من أنكرَ منكم مَشهَداً، فليغيِّرْ قلبَه. من استطاب فيئاً، فلا يَغْفُ.
ارفعوا قواعد الجديد من كثبان الحيرة. لِدوا ما تثقون أنّه لن يُدحى عجيناً في هذا الفرن. الصمتَ الصمتَ، فكمْ تُبِّلَتِ الأضاحي بأناشيد الحالمين!
كلَّ مساءٍ أتسلّق هذه الربوة الشائكة لأشهد تلاطُمَ الموج. ما الذي يجنيه نَزيلُ المنفردة من مشقّة التطاول إلى الكوّة، حين يهرول السجناء في باحة التنفّس؟
هذا هو المضمار الذي يركض فيه الزمن حول ذاته. نزواتُ الماء تَقرض مُثُلَ اليابسة العليا، طيورُ الآتي تجوِّف فزّاعاتِ الحاضر.
لكنني هنا أنسلخ عمّا كنتُه، وأتعلّم ألّا أُكابِرَ كي أَكون. ما ينقشه الموج في الصخر يمحو صوتي، أمّا الزبد فيُهِيلُ على لياليَّ ترابَ الفجر.
بعد قليل يشعل الصيّادون فوانيسَهم، وتنشر الريح أرَجَ رايتي الوحيدة: قميصِ الغائب.
لن أبْرَحَ هذا الساحل، مادام البدر فوقه شبيهاً بوجه الفقير الصارخ أمام الساطور.
سأشتري، كل يوم، من بائع الخَسّ والزعتر ذي النداء العذب، حِمْلَ كتفين. فقد تَذبل الحارَة إذا نوى الرحيلَ.
أحسَنَ صاحبُ هذه الشقّة المفروشة حين لم يَترك لنا فيها أيّةَ مرآة.
يقال إنني كنت، ذات يومٍ، طفلاً. لا أعرف كيف تجرّأتُ على ذلك.
أحمد اللهَ أنْ بَرَّأَ الينابيعَ التي ولِدتُ قربَها من كلِّ دمٍ، فلمّا شاؤوها مغسلاً للمسالخ: غارتْ.
آملُ ألّا أموت قبل أن أنهي مخطوط هذه الرواية، عمّا جرى في وادي النَّمل حين مرَّ موكب سليمان.